نزهة الناقد . السينما ضمير العالم بقلم صلاح هاشم
في كلمتها التي ألقتها المخرجة الفلسطينية مها حاج في مهرجان ” كان” 75. قبل عرض فيلمها ” ” حمى متوسطية “. في قسم ” نظرة خاصة” في قاعة عرض “ديبوسي ” بالأمس الخميس 26 مايو ..
لقطة من الفيلم الفلسطيني ” حمى متوسطية” لمها حاج
ذكرّت مها، بمقتل الصحافية الفلسطينية شرين أبو عاقلة- من مواليد القدس عام 1970- برصاصة من جيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ، وذلك أثناء قيامها بعملها الصحفي، في مخيم جنين – مخيم لللاجئين الفلسطينيين- في محافظة جنين، وتعتبر الإعلامية الراحلة شرين، من اعمدة الصحافة العربية والفلسطينية، ومن أهم رموزها، حيث أنها عملت في هذا المجال، منذ عقود، وقالت مها- قبل آن تتمنى عرضا طيبا للمشاهدين- ” شرين.. لن ننساك أبدا.”..
وهذه الكلمة ،حين تعود بنا ذاكرتنا في المستقبل، الى ذكرياتنا عن دورة ” كان ” الـ75 هذه الإستثانئية والتاريخية، وأفلامها الرائعة، لن ننساها أبدا..ولن ننساك شرين ماحيينا..
هل ” الديالكتيك ” حمى متوسطية ؟
فيلم مها الحاج ” حمى متوسطية ” ، أحببته كثيرا جدا، وأعتبره عملا سينمائيا، من أنضج وأذكى إُنتاجات السينما العربية في الخمس سنوات الآخيرة، ويحكي الفيلم الذي تدورأحداثه في حيفا،عن غربة االفلسطينيين في وطن محتل، حيث تنتزع فيه منهم هويتهم، وتاريخهم ولغتهم وجغرافيته أيضا وكل شيء٫ ويجبرون فيه على قبول واقع الاحتلال، وتناقضات المجتمع الإسرائيلي..
والتحايل بأي شكل، للتعامل معه، ويظهر ذلك من خلال بطل الفيلم، الهارب من الأيام، و رب الأسرة الفلسطيني، الذي يدعي أنه كاتب، وأنه يستطيع أن يعيش من عرق جبينه هو وأسرته، إذا كتب رواية٫ و الذي يعاني من مرض الإكتئاب والإنهيار العصبي ، ولا ينفع معه علاج نفساني، فيطلب من جاره المحتال – ولدهشته – أن يساعده في البحث عن قاتل مأجور، لكي يقتله ويستريح، وتستريح أسرته منه، ومن أعماله، وتدخله دائما في شئونهم..
فيلم ” حمى فلسطينية ” لمها حاج، يقدم من خلال سيناريو محكم – مجاف للحكي الفاضي، في آفلام السينما العربية التجارية الإستهلاكية، والثرثرات اللا مجدية- وكتابة رائقة، ومن خلال تصوير شخصية البطل- المريض نفسانيا -وجاره..
يقدم شخصية ونقيضها، داخل الأسرة الفلسطينية الواحدة، ،ومن خلال الصراع بين الشخصيتين، تتطور أحداث الفيلم، الذي لا يخلو من فكاهة وتشويق، بشكل سلس وطبيعي- لتعكس موقفين من الحياة، في وطن محتل، والتعايش مع غربة الحياة ، تحت الإدارات البيروقراطية الإسرائيلية، على مستوى التعليم والطب النفساني وغيرها. تلك الإدارات التي لا تعرف أن فلسطين، يمكن أن تكون لبعض الفلسطينيين، مثل بطل الفيلم ” ديانة ” وأن ” القدس ” عاصمة دولة فلسطين..
” حمى متوسطية ” لمها الحاج، بحسه الفكاهي التهكمي٫ الذي يمتد ليلامس في الفيلم الواحد ،عدة أجيال، يدلف بنا مباشرة، ومن أول مشهد في الفيلم الى ” الجدل” – الديالكتيك – بين البطل وشقيقه، حيث يدور الجدل هن، حول من منهما المسئول عن موت الأم..
هذا ” الجدل ” الفلسفي المستمر بين البطل وجاره، وبين البطل وأمه٫ و وزوجته وطبيبته النفسانية الخ ، هو- في رأيي ” الحمى المتوسطية ” في الفيلم ، حمى تلك التساؤلات المحيرة، ترى من يستحق الموت، هل هو من يخاف من الموت أو من يخاف من الحياة ؟ ، التي لايكف البطل عن طرحها على نفسه والآخرين، والعالم، ومن دون أن يجد جوابا شافيا..
وهو أيضا “الحمى” المقصودة في العنوان٫ والتي تمنح الفيلم روحه، وتجعله في ذات الوقت، قريبا جدا في أسلوبه الفني، من نوع الأفلام الواقعية التهكمية، التي يصنعها المخرج الفلسطيني الكبير المتميز إليا سليمان، صاحب ” يد إلهية “، والتي يسخر فيها إليا دوما من نفسه- كما يفعل الممثل والمخرج السينمائي الأمريكي العظيم بستر كيتون – ويجعلنا نضحك في أفلامه، على ذلك ” الفلسطيني الغريب ” في عالم غريب، ولامعقول ، وعبثي ومأسوي٫ بعد أن صرنا جميعا فيه، وبمرور الوقت، نضحك هكذا على أنفسنا، ونحن نتأسى أيضا لحال الغرباء، ونجد فلسطين الآن – بعد أن تغربنا جميعا داخل جلودنا – في باريس ونيويورك و في كل مكان..
السينما ضمير العالم
هذه ” الحمى المتوسطية ” في مهرجان ” كان ” 75، من حيث غربتنا الآن في العالم ، أي” سؤال الحياة “، من خلال الأفلام التي تسعى دوما الى تقديم ” صورة تشبهنا”،كما في فيلم مها حاج..
ثم سؤال السينما٫ بكل مدارسها واتجاهاتها، وهل أن الحياة تستحق أن تعاش، ورغم كل شييء، في واقع درامي ومأسوي، حملتها لنا عدة أفلام رائعة في ” المسابقة الرسمية ” لمهرجان “كان ” في دورته 75..
أفلام حرص صانعوها، من المخرجين الكبار، على أن تعكس أفلامهم ” صورة تشبهنا “، لكي تصبح السينما، صورة للضمير الإنساني، وأداة تفكير، وشكل يفكر ، وهي تكشف – في ذات الوقت – عن أبرز القضايا، التي تواجه المجتمعات الأوروبية٫ ومن ضمنها، كما في فيلم ” توري ولوكيتا ” – للأخوين البلجيكيين لوك وجان بيير داردين، اللذين سبق لهما الحصول على سعفة ” كان ” الذهبية، والمشارك في المسابقة الرسمية – مشكلة الهجرة بسبب الدمار و الحروب في سوريا وأفغانستان وأوكرانيا، الى أوروبا..
فيلم ” توري وكيتا ” يكشف عن مشكلة الحصول على الأوراق الرسمية التي تتيح للبالغين من المهاجرين من الأطفال من افريقيا ،و من ضمنهم البنت لوكيتا، وعمرها 17 سنة في الفيلم، العمل والكسب، من عمل شريف، وليس من خلال الغناء في محل بيزا لتسلية الزبائن، ثم توزيع وبيع المخدرات ليلا، لحساب صاحب البيتزا، وإرضاء شهواته الجنسية،نظير مبلغا من النقود، وإرسال بعض المال الى الأهل ..
لقطة من فيلم ” توري ولوكيتا ” للأخوين البلجيكيين داردين
ويبدأ الفيلم بمشهد إستجواب قاس وصعب للوكيتا، في المكتب البجليكي المخصص لمنح تصريحات الإقامة ،حيث تدعي لوكيتا أن توري وهو طفل إفريقي في سن العاشرة هو شقيقها٫ لكنها تفشل في محاولاتها إقناع المسئولين بأنه شقيقه، فتلجأ الى الرضوخ لصاحب البيتزا للحصول على أوراق عمل مزيفة٫وتقبل بأن تعمل كبستانية تسهر على رعاية نباتات الماريجوانا المخدرة في مزعة سرية، تدار بواسطة مافيا بلجيكية من المجرمين، التي تستغل المهاجرين في بلجيكا إستغلالا بشعا ،وتعاملهم كالعبيد، ولا تتورع عن إهانتهم وإذلالهم وسجنهم وتعذيبهم – كما يحدث في الفيلم- بل وقتلهم والتخلص منهم أيضا ، إذا اقتضت الحاجة..
صلاح هاشم في مهرجان ” كان ” السينمائي 75
فيلم ” توري ولوكيتا ” للأخوين البلجيكيين داردين، الذي يحكي من خلال” صداقة رائعة ” بين طفلين عن ” مغامرة ” الحياة التي يعيشها المهاجرون من الأطفال في أوروبا – بلجيكا نموذجا – هو من أحسن الأفلام، التي شاهدتها في المسابقة الرسمية للدورة 75، ويتميز الفيلم بعاملين أساسيين في كل الأفلام التي صنعها الشقيقان دارين، هما ” البساطة ” و ” الوضوح” – وانتماءه الى مدرسة ” الواقعية الجديدة ” التي ظهرت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، على يد مجموعة من المخرجين، من أمثال روسوليني ودو سيكا، حتى إنك من فرط وضوحه وبساطته، يجعلك تعتقد أنه، وعلى الرغم من حبكته ” البوليسية “، فيلم وثائقي تسجيلي ” من صنع ” هواة “، وقد إستلهموا هكذا قصته الواقعية، من أرشيف مكتب رعاية المهاجرين من الأطفال في بلجيكا، وليس فيلما من صنع الخيال..
كما آنه يحكي في ذات الوقت عن “حلم ” ما ، والرغبة بشتى الوسائل في تحقيقه، ألا وهو حلم كل المهاجرين، في البقاء والإستقرار، والعيش الكريم، في الوطن الآخر، واعتمادهم دوما في تحقيق أحلامهم، على ثقتهم بأنفسهم..
و لذا، أرشح فيلم ” توري ولوكيتا ” للشقيقين البلجيكيين داردين، لأنه يحمل هما – ضمير العالم – ويناقش قضية سياسية بنت اليوم ، للحصول على ” السعفة الذهبية” في الدورة 75..
كما ارشح مجموعة من الأفلام الرائعة، التي شاهدتها في المسابقة، مثل فيلم ” زمن أرماجيدون ” من أفلام ” السيرة الذاتية”، وتقع أحداثه في فترة الثمانينيات أثناء حكم الرئيس الممثل ريجان، للمخرج الأمريكي الكبير جيمس جراي، و المرشح من قبل مجموعة كبيرة من أغلب النقاد في المهرجان، للفوز بسعفة ” كان ” الذهبية، وربما كان يستحقها على الرغم من وقوع أحداثه في الماضي..
وفيلم ” زوجة تشايكوفسكي” – الذي يعرض لوحة سينمائية تاريخية عاطفية رائعة لـ ” مجد المرأة ” للمخرج الروسي كيريل سيريبرينكوف، وفيلم ” نوستالجيا ” لللايطالي ماريو مارتون ” عن ” فشل العودة” الى نابولي، بعد 40 سنة إقامة في القاهرة – مصر..
إرشحها في للحصول على جوائز، في حفل الإعلان عن جوائز الدورة 75 الذهبية” الذي يقام غدا السبت الموافق 28 مايو، ولنا وقفة مع حصاد ” كان ” السينمائي في عدد مقبل من ” القاهرة ” ..
صلاح هاشم مصطفى
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة” بتاريخ 2022