” لف الدنيا. من قلعة الكبش الى بلفيل” 1- بلفيل بقلم صلاح هاشم
إستهلال :
***
كتاب ” لف الدنيا.من قلعة الكبش الى بلفيل “
1- بلفيل
بلفيل بريشة الفنان المصري الكبير جورج البهجوري
استدار الى البهجورى ثم قال مبتسما :
– لا يا عم .. كله كوم وبلفيل كوم ، لقد حاولوا من قبل الاعتداء على هناك وقد نجوت بأعجوبة ، إذا كنت تود الذهاب إلى بلفيل فأفعل ذلك وجدك ، ولكن لا تنس أن تأخذ معك دورية حراسة .
ثم همس فى اذنى أمام جمع من الأصدقاء قائلاً :
– تشجع …
كنت أعلم أن المدن التى تكسو وجهها بالمساحيق والأصباغ ثم تتعطر لك وترتدى أجمل ما لديها من ثياب هى جسد بلا روح ، إنها تخفى قبحها وبشاعتها فى الشوارع الخلفية المهملة المنسية .
لنذهب إلى بلفيل فى ضواحى باريس الشمالية – سنستمع هناك إلى أم كلثوم تغنى ” هجرتك” … وسنشرب شايا بالنعناع ، وسنأكل سمكا مشويا فى عرض الطريق ، وسنسعد بلقاء أطفال بلفيل ، وهم يمرحون فى شوارعها العامرة بالخلق …
بلفيل بريشة جورج البهجوري
فجأة تذوب باريس بضجيجها المعتاد وصخبها المتمرد وترفها المتوحش . ولا يبقى أثر لشارع الشانزيليزيه الذى يعج بالسياح فى الليل .
أتطلع من نافذة المترو وهو ينهب القضبان الحديدية من محطة إلى أخرى ، يصعد بعض العمال العرب ، يوم آخر شاق من العمل غربت شمسه ، يحلمون بأطفالهم الصغار الذين يذرعون شوارع وحوارى بلفيل جيئة وذهابا ، يسألون عن الآباء الذين غابوا منذ ذلك الصباح البعيد ، متى يعودون ؟
السيدة التى تجلس قبالتى تبدى امتعاضا شديدا ، أنا أعرف ما تفكر به لسان حالها يقول :
– احترس دائما من الغرباء السمر ذوى الشعر الأكرت .
فى بلفيل ستطالعك تلك الوجوه الداكنة التى شبعت من حرارة الشمس واكتسبت بشرتها ذلك اللون النحاسى المتألق .
فى بلفيل ستجد شيئا من بؤس الوطن وفقره .. قدرا من العذاب . ستطالعك ابتسامات الأطفال ، رغم كل مظاهر الفقر وبشاعة اليأس فى العيون .
يمتد بوليفار دو بلفيل بلا نهاية ، الحمام الجاثم فوق اسلاك الكهرباء تدب فيه الحياة فجاة ، فيحلق مع الربح فى اتجاه الشمال .
تنتشر المقاهى بكثرة على الجانبين ونسمات الهواء اللطيفة تداعب الوجوه فى رقة ، والشمس تشرق فى بهاء . ولا يفسد بهجة المكان الا عربات البوليس التى تواجه مخرج محطة بلفيل .
يتقدم رجال البوليس يحيونك ، يطلبون منك أن تفصح عن هويتك ، عليك أن تبرز لهم بطاقتك الشخصية ، ثم بطاقة الاقامة ، ثم أوراقاً أخرى روتينية ، عليك أن تحملها معك فى جيبك ، اينما كنت ، خاصة إذا كنت عربياً ، وجهك يا صديقى يفضحك فى كل مكان .
على الجانبين ، تنتشر المحلات العربية التى تبيع كل شئ ، من السمسم والكزبرة مرورا بالتوابل ، حتى الطحينة والمخلل والمكسرات .
الحاج محمد المغربى يتنقل فى دكانه بهمة ونشاط ليلى طلبات الزبائن . يبحث عن السلم الخشبى الصغير ليرتقيه وتمتد يده إلى أحد الرفوف ليتناول براد شاى أزرق .. يلوح به للزبون إذا كان مطابقا للأوصاف المطلوبة .. يهز الزبون رأسه موافق … فيهبط الحاج محمد بالبراد الأزرق .
فجأة يمرق أمام الدكان بائع عقود الياسمين التونسى الذى يجوب طرقات بلفيل فى النهار ، رائحة الياسمين تسبقه إلى زبائنه ، وهو يدندن بلحن للمطربة التونسية عليا …
نتقدم فى الطريق الصاعد … حشد هائل من البشر يموج بالحركة .. تطل عليك من نوافذ المنازل القصيرة الايلة إلى السقوط ، وجوه عربية تجمع الغسيل المنشور على الحبال . تفضحك نظراتك .. تبتسم لك احداهن – آه … تلك الابتسامات من الوطن – ثم تسرع إلى الداخل فى حياء وخجل .
تقف مجموعة من العمال أمام إحدى وكالات السفر … رحلات إلى الجزائر .. والمغرب وتونس .. قائمة مكتوبة باللغة العربية .. يبرز من بين العمال شاب قصير يقف أمام القائمة يقرأها ثم يستدير إلى أصدقائه ويترجم لهم ما يقرأ باللهجة الجزائرية ..
اليوم هو يوم الجمعة والزحام فى سوق بلفيل على اشده .. يميل نحوك أحدهم ثم يقول :
– هذه أرخص الأسواق الباريسية . أسعار الخضار والفاكهة عندنا هنا تقل بكثير عن الأسعار الرسمية .
يتناول بائع البطيخ سكينه الحاد ثم يهوى بها فى قلب البطيخة وينتزع لك القلب لتذوق حلاوته بنفسك . تقضم قطعة من البطيخة ، ويقف المترددون على السوق حولك ويزدحمون فى اتجاه البائع الذى لا يكف عن الصياح . صوته كالرعد يصل إليك ولو كنت هناك فى الطرف الآخر من السوق .
الساعة الآن الثانية عشرة ظهراً . على الحائط كتابات وملصقات باللغة العربية . واحدة تعلن عن المباراة الأخيرة التى ستقام قريبا فى ستاد ضخم بباريس والتى يتنافس فيها الفريق العربى فى المهجر والفريق البرتغالى .
الملصق يدعو أهل بلفيل العرب إلى الإقبال على المباراة لتشجيع فريقهم الكروى الذى احتفظ بكأس البطولة فى العام الماضى .
هناك كتابة على الجدران تحذر العمال العرب من مبلغ العشرة الآف فرنك الذى وعدت به سكرتارية الدولة لشئون الهجرة كل عامل عربى يترك فرنسا نهائياً .
إعلانات عن شقق للتأجير والبيع . إمساكيات رمضان تتصدر المطاعم العربية . محلات الجزارة العربية تبيع لك اللحم الحلال المذبوح . السوق يعبره البشر أفواجاً متموجة تراه عن بعد .
نجمه داوود تتصدر محلات الجزارة اليهودية .
تتطلع إلى إعلانات الأفلام العربية . فيلم ” الرسالة ” يعرض هنا فى سينما ” بلفو ” العرض مستمر وتذكرة السينما لا تكلفك أكثر من ستة فرنكات . معظم رواد السينما يقصدونها أساساً للنوم . يستلقون على مقاعدهم فى الداخل ويتركون العنان لسلطان الرقاد .
فى منتصف الليل يمر ذلك الرجل البدين القصير وهو يطرق على طبلته بعصاه . يفيق النائمون ، إلى أين يتجهون … من يدرى ..
ربما إلى الحدائق والأرصفة وفتحات المترو الدافئة التى تتسلل منها أنفاس البشر إلى الخارج … حتما ستكون السماء رحيمة بهم فلن تمطر الليلة .
نتابع السير . نتقدم فى أحد الشوارع الجانبية . شارع ” رامبونو ” الذى يعتبره الجميع رئة حى بلفيل وعموده الفقرى . عليك أن تتسلق الشارع الممتد كالتل لتصل إلى قمته . فجأة تتطلع إليك العيون لأول مرة . إنك شخص غير مرغوب فيه . تحركاتهم ونظراتهم تجعلانك تحس بذلك .
يطل عليك الصغار من خلف الجدران الترابية . يسدون عليك الطريق ، وكأنهم يحاولون منعك من التقدم . وجوههم شاحبة هزيلة وأجسادهم ضامرة . تدفعهم عنك برفق .
تمضى فى السير ، خلف البوابة يختفى عالم رهيب مرعب . من الأزقة والحوارى الضيقة الصغيرة
وعندما يتجه بصرك إلى الأعلى تروعك هذه الكتل الهائلة من سقوف المنازل المتلاصقة التى يخيل إليك أنها ستسقط بعد لحظة فوق رأسك .
عندما تعبر البوابة الصغيرة تداهمك الروائح الكريهة . فتكاد أن تختنق .. يتسلل إلى سمعك بكاء طفل رضيع يأتى من بعيد ، ربما كان طفلا جائعا تركته أمه وحده وغادرت المكان بحثاً عن لقمة عيش .
وفجأة تهمس فتاة سويسرية فى أذن صديقها :
أننى خائفة ، لا اجرؤ على المجئ إلى هنا وحدى .. حتى معك لا أقدر أن أفعل ذلك .. إننى لا أصدق ما أراه .
يوافق جلبير كالمذهول :
– كيف يحدث هذا . من يصدق أن كل هذا البوس يقع على بعد عشر دقائق سيرا على الأقدام من ساحة الأوبرا الأنيقة الباذخة .
قررت أن أبقى وحدى فى بلفيل حتى يدخل الليل . فى أحد المقاهى العربية ، تجمع بعض الرواد فى أحد الأركان يلعبون الورق . فريد الأطرش يدندن .. ” عاد الربيع من تانى ” الحركة فى الميدان لم تنقطع بعد . المعلم كمال القروى الجزائرى صاحب القهوة يحدثنى يحاول أن يفسر لى لماذا ينظرون إلى بريبة ويقول :
– للديار حرمة . أنت تدخل متطفلا على القوم .. هذا حى يقطنه قوادون وتجار مخدرات ومومسات ومجرمون وهاربون من العدالة من كل لون وجنس، لذلك تتطلع إليك العيون فى البداية خوفا من أن تكون مرشداً للبوليس .. فالداخل إلى بلفيل مشكوك فى أمره وهو مدان من قبل الجميع إلى أن يثبت حسن نيته .
المعلم كمال يعيش فى بلفيل ويملك هذا المقهى منذ 15 سنة . ويقول أنه من الصعب تحديد عدد سكان الحى . الاحصاءات الرسمية تقول : 20 ألفا والمعلم كمال يقول مائة الف شخص : أنا لا أدرى أيهما الصحيح : حسابات الحكومة أم حسابات المعلم قروى .
ويقول المعلم أن معظم سكان بلفيل من العرب واليهود . لقد جاءوا إلى الحى فى 3 موجات. الأولى عام 1956 بعد استقلال تونس . الموجة الثانية فى عام 1961 بعد أزمة بنزرت . والموجة الثالثة فى عام 1967 بعد حرب الأيام الستة .
والحى يعتبر ” غيتو ” مفتوحا لكل من يعيش على هامش الحياة فى باريس . ” فى حزيران (يونيو) عام 1968 ، نشبت معركة سقط فيها أكثر من قتيل عندما احتج سكان بلفيل العرب على احتفالات اليهود فى أول ذكرى لانتصار اسرائيل فى حرب الأيام الستة ” .
ويمضى قائلا :
” لكننى أقسم لك أن هناك دسيسة فى الأمر . لأبد أن أحد المتسللين إلى الحى قد افتعل خلافا تطور إلى قتال بين الطرفين . على كل حال اذقناهم درسا لن ينسوه . ثم تدخل البوليس ” .
ثم ينتقل فجأة إلى الحديث عن الأطفال :
الأطفال هنا يتركون وحالهم ليتشردوا فى الطرقات .. ليدبروا المقالب لعابرى السبيل . الأباء والأمهات لا يهتمون بتعليم ابنائهم .. ليس هناك أمام الصغار سوى الخيار بين أمرين : اما التشرد فى الشوارع واما تعلم صنعة أو حرفة . صبى بقال أو صبى جزار أو حلاق .
عمال النظافة لا يترددون على الحى ، الا مرة واحدة فى الأسبوع . الغرفة الواحدة يسكنها أكثر من خمسة أشخاص . ومن السهل أن يصاب المرء هنا بالدرن .
تشترك المقاهى المتناثرة فى شارعى ” رامبونو ” و “اوريلون” كلها ، تقريباً ، فى سمة واحدة . العجائز والعاطلون عن العمل يقصدونها ليلعبوا الورق . الشباب المتسكع يتردد عليها من أجل العراك وتبادل السباب والشتائم .
ذلك هو حى بلفيل العربى ، جزيرة من البؤس وسط بحر من الاغتراب حسبها القادمون الجنة الموعودة ، وإذا بهم ينتقلون من فقر وحرمان فى الوطن إلى التشرد والبؤس فى اللاوطن .
صلاح هاشم
مجلة ” الوطن العربي ” . باريس . 1978
صلاح هاشم كاتب وناقد ومخرج مصري مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع سينما إيزيس عام 2005 في باريس