فيلم ” الغسالة “: جرأة منقوصة، وخيال كسيح متلعثم ومحاصر. بقلم مجدي الطيب
هل يتعارض الخيال العلمي مع الدين ؟. سؤال حيوي كان ينبغي لأصحاب فيلم «الغسالة»، أن يجدوا له إجابة، قبل الشروع في تقديم الفيلم، الذي ينتمي إلى هذه النوعية، التي لا تحتاج إلى إمكانات إنتاجية كبيرة فحسب، وإنما تتطلب شجاعة أكبر، في الطرح، وتحمل مغبة الاجتهاد، ومُجابهة الاتهامات التي يمكن أن تُطاردهم، وتُنغص عيشتهم، وعلى رأسها الاتهام بالكفر؛ لأن كل شيء في هذا العالم هو قضاء وقدر، لا يمكن تغييره، ومن يتجرأ ويفعل فهو آثم، متمرد على القدر المحتوم، وعلى علم الله، ومشيئته، وعظمته؛ فالمكتوب على الجبين «لازم تشوفه العين».
في هذه النقطة، تحديداً، فشل المؤلف عادل صليب، والمخرج عصام عبد الحميد، في أول تجربة لهما في التأليف والإخراج؛ إذ افتقدا شجاعة الطرح، وامتلكا جرأة منقوصة، كما اعتمدا على خيال اتسم باللعثمة، وكأن المُراد من الفيلم التحذير من مغبة أي تفكير، أو اجتهاد، وترويج للأباطيل اليهودية، التي تقول إن الله إذا كتب على عبد أمراً فإن يديه مغلولتان عن تغييره، مع إقرارهما المُطلق بأن «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (الآية 59 من سورة الأنعام)، ومن ثم العودة بنا إلى القضية الجدلية «الإنسان مُخير أم مُسير» !
تكئة هزيلة !
المفارقة العجيبة أن الجدية التي نتناول بها تجربة «الغسالة»، لا مكان لها في الفيلم، الذي تقوم أحداثه على فكرة هزلية؛ حول «عُمر» (محمود حميدة)، الذي يسعى، وهو في الستين من عمره (القاهرة 2048)، لإصلاح خطأ قديم ارتكبه وهو طفل، في العاشرة من عمره (1998)، حرمه، وهو في الثلاثين من عمره (أحمد حاتم 2018)، من الزواج من حبيبته «عايدة» (هنا الزاهد / شيرين رضا)، التي تزوجت من «سامح» (محمد سلام / طاهر أبو ليلة)، ووجد أن عليه العودة، عبر الزمن، لاصلاح الخطأ (التاريخي)، وتغيير (المصير والقدر) .
الهزل يكمن في أن الخطأ (التاريخي)، الذي حرم الشاب الثلاثيني، ومن ثم الكهل الستيني، من «عايدة»، يتمثل، بسذاجة منقطعة النظير، في أن «عمر»، طفل العاشرة، أصاب «عايدة»، بالخطأ، أثناء لعبهما، وهما أطفال، كرة المضرب (التنس الأرضي)، وكأن قريحة المؤلف لم تُسعفه ليُبدع سبباً أكثر جدية، ومنطقية؛ بحيث يقنعنا بأنه خطأ تاريخي بالفعل، ويُبرر اختراق، وعبور، الزمن، بالشكل الذي رأيناه !
الخلاصة أننا حيال تنويعة جديدة على «آلة الزمن»، أول رواية خيالية للكاتب هربرت جورج ويلز (صدرت عام 1895)، تتناول فكرة السفر، عبر الزمن، إلى المستقبل، بعد أن تحولت «الغسالة» إلى «آلة الزمن»، وصار «الكشكول»، الذي خط فيه «عمر الستيني» مذكراته، أقرب إلى «الكتالوج»، لكن الفيلم عج بالتفريعات، والشخصيات، التي انحرفت به عن مساره، كما في شخصية مصطفى هريدي معتاد الرسوب، التي تُذكرك بالطلبة المتعثرين في فيلم «يا تحب يا تقب»، وشخصية عميد الكلية سامي مغاوري وشخصية الأب بيومي فؤاد وفأر التجارب)، فضلاً عن المحاولة الفاشلة لاستغلال الممثل الكوميدي أحمد فتحي ( في دوري حارس أمن الكلية ورجل المباحث)، لإشاعة روح المرح في نوعية من الأفلام ليس فيها مجالاً للكوميديا، بهذه الصورة الهزلية، وإظهار العلماء بوصفهم بلهاء، ومجانين (أحمد حاتم وهنا الزاهد في كلية العلوم)، وخطة تزويج «هاشم» (بيومي فؤاد)، والد «عمر»، ثم إسقاطها من حسابات السيناريو، وعدم الدقة العلمية في القول بأن المسافر عبر الزمن تتفكك جزئياته، في حال لم يرتد لزمنه قبل مرور سبعة أيام (لهذا جرى تقسيم الفيلم إلى أيام)، والافتعال الصارخ في مشهد المستشفى، وظهور الممرض (محمود الليثي) والمريض (علي الطيب)، ومشهد التحرش في الحافلة العامة !
أم الكوارث !
أما الخطأ الفادح، الذي لا يمكن التغاضي عنه، أو تجاهله، فيتمثل في المشهد الذي يُقدم فيه «عمر الثلاثيني» على دخول «الغسالة»، وترديده دعاء الركوب، وبدلاً من أن يقول «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ» (الآيات 13 و14 من سورة الزخرف)، إذ به يقول، ببلاهة واستخفاف، «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا (مقتنعين)، وإنا لمصيرنا مُقدمون»، وتناسى الجميع أنها آية قرآنية لا يمكن تحريفها أو المساس، والتلاعب، بكلماتها !
العجيب أن هذا التطاول، من دون داع، على السورة القرآنية، تكرر، على استحياء، عند استلهام زمن التسعينيات؛ حيث جاءت المقارنة لصالح فيلم «سمير وشهير وبهير»، الأكثر إبهاراً، وإتقاناً، على صعيد الإكسسوارات، والديكورات، ومحاكاة الحقبة الزمنية، واستدعاء مفرداتها، فضلاً عن التوظيف المجاني من واضع الموسيقى التصويرية محمد مدحت، لموسيقى سلسلة أفلام الحركة الشهيرة «مهمة مستحيلة»، والاختيار العشوائي لشخصية «سيد ترمينيتور»، وكأن خيال المخرج، ومعه السيناريست، نضب، وخلت جعبتهما من أي إبداع وابتكار، وهو المعنى، الذي تأكد جلياً، في النقل الحرفي لأغنية «كاجولوه» من فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية»، حتى لو قيل إنه جاء في سياق استلهام حقبة التسعينيات؛ بدليل أن الحديث عن تركيبة المخدرات منقول عن فيلم «الكيف»، الذي ينتمي للثمانينيات، واقتباس مشهد تصوير «عمر الطفل والثلاثيني»، وهما بجانب لوحة الإعلانات المضيئة ( تصوير جاد بيروتي)، من فيلم «على جثتي» (2013)، بطولة أحمد حلمي وحسن حسني، من إخراج محمد بكير، وتصوير : أجمد جبر وتيمور تيمور. وربما باستثناء مشهد الهروب والمطاردة، وتقسيم الكادر (مونتاج محمد أمير)، ودخول السيارة الفولكس في شاحنة النقل بشكل جمالي خادع (جرافيكس كريم ميرا)، لكنه أخاذ بصرياً، لا يمكن النظر بعين الجدية لتجربة «الغسالة»؛ رغم تعاون ثلاث شركات إنتاجية (سينيرجي، مصر العالمية ونيو سينشري) في دعمها !
الاعتذار .. وكأنها جريمة !
المفارقة الأكثر إثارة أن أصحاب «الغسالة»، لم يتركوا مشهداً، أو جملة حوار، من دون تقديم ما يُشبه الاعتذار، عن خطأ السفر عبر الزمن، لتغيير الماضي والمستقبل، وكأنهم ارتكبوا جريمة، أو أجبروا على صنع الفيلم؛ فالفصيل الديني، كما يُعبر عنه «سيد» (أحمد فتحي)، يُحذر من مغبة «اللعب في الزمن»، و«تغيير القدر»، والعامة الذين تُمثلهم «عايدة» (هنا الزاهد)، تُلقي باللائمة على «عمر الستيني» (محمود حميدة)، وجيله، وتتهمه بالأنانية، مثلما تُحمله مسئولية ماجرى «رجعت للماضي علشان تغيره من غير ما تاخد رأي أي حد فينا»، بينما «عمر الثلاثيني» (أحمد حاتم) يقول :«المهم اننا نجحنا»، وتؤيده «عايدة» : «.. والمستقبل لسه ما حدش يعرفه». أما المفاجأة، التي تهز بنيان الفيلم بأكمله فيفجرها «قائد التغيير» نفسه (محمود حميدة)، بقوله :«مش عاوزين نلعب في خط الزمن أكتر من كده»، ويُطالب «سيد» بتدمير وحدة السفر عبر الزمن، «الغسالة»، ومع المشهد الأخير (القاهرة 2068 ) يتوجه للجمهور، وقد صار كهلاً، قائلاً : «ماحدش يقدر يغير القدر»، وبصورة إنشائية، وخطابية مباشرة، ينطق برسالة الفيلم، التي لم ينجح المؤلف والمخرج في ترجمتها بصرياً : «ممكن نصلح غلطات زمان نقرب من بعض ندي بعض فرصة تانية .. ساعتها بس ممكن الحب ينتصر .. لكن برضه ماحدش يقدر يغير القدر» ثم يحرق مُذكراته، وكأنه يُغلق الصفحة نهائياً، ويتبرأ، وأصحاب «الغسالة»، من تهمة اسمها الاجتهاد، وربما ليُجنبوا أنفسهم مصير فيلم «قاهر الزمن» (1987)، إخراج كمال الشيخ، وبطولة نور الشريف، عن قصة لرائد أدب الخيال العلمي نهاد شريف، الذي تدور أحداثه، حول عالم (جميل راتب)، ماتت زوجته بسبب عقار لم يتوصل إليه الطب وقتها، فآل على نفسه أن يُجري تجارب لتطويع خلايا الإنسان، والحفاظ على المرضى بالتجميد، حتي يتم العثور على العقار اللازم للعلاج، لكن الفيلم أتهم آنذاك (حقبة إرهاب الثمانينيات، ومطاع التسعينيات، وطغيان الفكر الوهابي، وسيطرة التنظيمات الجهادية) بالكفر والشرك بالله (في الفيلم يُحطم مساعد العالم المعمل، ويحرقه ثم يقتل العالم “الكافر”) لكن الصحفي (نور الشريف) ينقذ المذكرات، التي دون فيها العالم تجاربه، ويؤخذ بها في القاهره عام 2110 .. وياله من فارق شاسع بين شجاعة «قاهر الزمن» ورجعية وتخلف «الغسالة» !
مجدي الطيب
عن جريدة ” القاهرة ” الصادرة بتاريخ 18 ديسمبر 2020